كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذه المسألة أخذت ضجة عند خصوم الاسلام والمستشرقين والحق سبحانه وتعالى وإن كان قد عدل لرسوله صلى الله عليه وسلم، فتعديل الله لرسوله يشرف رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن من الذي يعدل لمحمد؟ إنه الله الذي أرسله.
ويقول: {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ}. ومفهوم هذه العبارة أن المحرمة إنما هي حليلة الابن من الصلب. وقوله: {مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} يدل على أنه كان هناك أبناء ليسوا من الصلب، إذن فالتبني كان موجودًا قبل نزول هذا الحكم، وأراد الله أن يبطل عادة التبني، وكانت متغلغلة في الأمة العربية، فأبطلها على يد سيدنا رسول الله، لا مشرعا ينقل حكم الله فحسب، ولكن مطبقا يطبق حكم الله في ذاته وفي نفسه حتى يأخذ الحكم قداسته، ويجب أن نفطن إلى أن فكرة التبني كانت في ذاتها تهدف إلى أن ولدًا نجيبا يلحقه رجل به ليعطيه كل حقوق أولاده كلون من التكريم.
ولذلك علينا أن نلحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تصرف بالكمال البشري في إطار العدل البشري، والعدل هو: القسط، وساعة تبنى زيد بن حارثة وسماه زيد بن محمد إنما كان يهدف إلى أن يعوضه والده، لأن زيدًا اختار رسول الله على أبيه، إذن فكان ذلك التبنى من رسول الله كمالا وعدلا بشريا بالنسبة للوفاء لواحد آثر اختياره على اختيار أهله فإذا أراد الله أن يصوب فيكون كمالا إلهيا وعدلا إلهيا، فلا غضاضة عند أحد أن يُصوِّب الكمال البشري بالكمال الإلهي، ولا أن يصوب العدل البشري والقسط البشري بالعدل الإلهي والقسط الإلهي، وأنزل الله وهو أحكم القائلين هذا الحكم بعبارة تعطي ذلك كله.
{....} [الأحزاب: 5].
أي: إن دعاءهم لآبائهم {أقسط عند الله}. وكلمة أقسط إياكم أن تكونوا بعدتم ونأيتم عن عظيم وأعظم، إنك ساعة تأتي بصيغة التفضيل يكون المقابل لها وصفا من جنسها، فأعظم المقابل لها عظيم، وأقسط المقابل لها قِسْط، فما فعله رسول الله هو قِسْطٌ وعدل، ولكن ما عدله الله أقسط مما صنعه رسول الله. إذن فيجب أن نفطن إلى أن الكمال البشري والعدل البشري شيء، والكمال الإلهي والعدل الإلهي شيء آخر. ومن نقله الله من عدل بشريته إلى عدل ألوهيته يكون قد تلقى نعمة كبرى.
وإذا ما حاول المستشرقون أن يأخذوا هذه المسألة على أن ربنا عدل له ويحاولوا أن يلصقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم خطأ ما، نقول لهم: أنتم لا تحسنون تقدير الأمر ولا تفهمون المراد من ذلك، فالذي صوب هو الله الذي أرسله، وقد صوب له فعلا فعله في إطار البشرية، وقال الحق: {هو أقسط عند الله} ومن الذي يجعل البشر متساوين مع الله في القسط والعدل والكمال؟
إن هناك قصة طار بها المستشرقون فرحا وكذلك يروجها خصوم الإسلام من أبناء الإسلام؛ لأن من مصلحة خصوم الإسلام، وكذلك الذين لا يحملون من الإسلام إلا أسمه؛ يرجون أن هذا الدين يحتوي على أكاذيب- والعياذ بالله- فما دام الواحد منهم لا يقدر أن يحمل نفسه على منهج الدين لا يكون له مندوحة ولا نجاة إلا أن يقول هذا الدين غير صحيح؛ لأن هذا الدين إن كان صحيحا فسوف يهلك هو ومن على شاكلته، فيكذبون أنفسهم وينكرون على الدين أملًا في النجاة في ظنهم إذ لا منجي ولا أمل لهؤلاء إلا أن يكون الدين كذبا كله.
لننظر إلى القصة التي طار بها المستشرقون فرحا: النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وكان عبد المطلب له بنت اسمها: أميمة بنتا اسمها برّة، وغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمها، لأنه صلوات الله وسلامه عليه كان له ملحظ في الأسماء، اسمها برة وغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمها، لأنه صلوات الله وسلامه عليه كان له ملحظ في الأسماء، اسمها برّة والاسم جميل لأنه من البر وهو صفة تجمع كل خصال الخير، لكن رسول الله كره أن يقال فيما بعد: خرج رسول الله من عند برّة فسماها زينب.
برّة هذه هي بنت أميمة فهي ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وزيد ابن حارثة- كما قلنا- كان طفلًا ثم خُطف وَسُرِق، وبيع وانصرف إلى ملكية رسول الله، وبعد ذلك أراد رسول الله أن يكرمه على ما يقتضيه كماله البشري وعدله البشري فسماه زيد بن محمد.
وعندما أراد زيد بن محمد أن يتزوج.. زوّجه رسول الله من برة على مضض منها، لأنه مَوْلى، وهي بنت سيد قريش. وكان ملحظ الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن يجعل من المسلمين مزيجًا واحدًا، فلا فرق بين مَوْلى وسيد، وزوَّج بنت عمته لزيد، وبعد الزواج لم ينشأ بينهما ودّ، وكل هذه تمهيدات الأقدار للأقدار.
بالله لو أنها كانت أخذته عن حب وكان بينهما وئام، وبعد ذلك أراد الله أن يشرِّع فهل يشرع على حساب قلبين متعاطفين متحابين ليمزقهما؟ لا، المسألة- إذن- تمهيد من أولها، فلم تكن لها رغبة فيه. وعندما يجد الرجل أن المرأة ليس لها رغبة فيه، تهيج كرامته، وخصوصا أنه صار ابنا بالتبني لرسول الله، ويكون رفض امرأةٍ له مسألة ليست هينة، وتصعب عليه نفسه، فيأتي لرسول الله شاكيًا، وقال له: لم تعجبني معاشرة برّة وأريد أن أفارقها، وكان ذلك تمهيدًا من الله سبحانه لأنه يريد أن ينهى مسألة التبني، فقد كانوا في الجاهلية يحرمون أن يتزوج الرجل امرأة ابنه المتبني، ولذلك يقول الحق: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37].
وما دام يقول له: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} فالكلام إذن قد جاء معبرًا عن رغبة زيد في أن يفارقها، لكن خصوم الإسلام وأبواقهم من المسلمين يقولون في قوله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} إن محمدًا كان معجبًا بالمرأة ويريد أن يتزوجها، ويخفى هذه الحكاية.
نقول لهم: كونوا منطقيين وافهموا النص، فربنا يقول: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ}، أنتم أخذتم منها أن النبي كان يريد أن يتزوجها. والحق قال: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ}. فإذا كنت تريد أن تعرف ما أخفاه رسول الله، فاعرف ما أبداه الله، هذه هي عدالة الاستقبال، وبدلا من أن تقول هذا الكلام كي تشفي مرض نفسك انظر كيف أعطاك ربنا من تفاصيل الحكاية. قال سبحانه: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} فماذا أبدى ربنا؟ وحين يبدي ربنا أمرًا يكون هو عين ما أخفاه رسوله، فلما ذهب زيد للنبي وقال له: أريد أن أفارق برّة قال له: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} لأن رسول الله عَلِم مِنَ الله أنه يريد أن يزوجه برة التي هي امرأة زيد الذي تبناه كي ينهى مسألة التبني، وأن امرأة المتبني لا تحرم على الرجل، ويطبقها رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه.
لكنْ هناك أناس مازال عندهم مرض في قلوبهم، وأناس منافقون، والرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يكون هذا الأمر وارادا من الله في قرآنه. فلو كان قد قال هذا الأمر بمجرد الإيحاء الذي جعله الله بينه وبينه لقالوا: هذا كلام منه هو؛ لذلك قال محمد صلى الله عليه وسلم لزيد: أمسك عليك زوجك، فينزل ربنا الأمر كله قرآنا، فلم يقل محمد: ألهمَني ربنا، أو ألقَى في رُوعي، لا، جاء هذا الأمر قرآنا، ولذلك يقدم الحق سبحانه وتعالى لهذه المسألة في سورة الأحزاب فيقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلًا مُّبِينًا * وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب: 36- 37].
فالله أنعم على زيد بالإسلام وأنعمت أنت يا رسول الله عليه بالتبني فلا تخش الناس أن يقولوا: طلق المرأة من زيد ليتزوجها. كأن زواج زيد من زينب، كان لغاية واحدة وهي أن تكون برة التي سماها رسول الله زينب منكوحة لزيد الذي تبناه رسول الله بدليل: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا} أي أدى المهمة، فأردنا أن نعطي الحكم: زوّجنا فمن الذي زوَّج؟ إنه الله، وليس رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي تزوج.
فإن كنتم تريدون أن تصعدوا المسألة فاتركوا رسول الله في حاله، وصعدوها إلى ربنا، فقوله سبحانه: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا} يدل على أن أصل الزواج من البداية ممهد له، فالغاية منه أن يقضي زيد منها وطرا وهو متبنى رسول الله، ويكون هذا الزواج عن كره منها، إنها غير موافقة عليه، وتنتقل المسألة عند زيد إلى عزة ويقول: لا أريدها. ويذهب إلى الرسول ويقول: أريد أن أطلق برّة فيقول له الرسول: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} كأن الغاية من النكاح أن يقضي زيد منها وطرا وتنتهي الحكاية بالنسبة لزيد، ويأتي الحكم بالنسبة لرسول الله فيقول ربُّنا زوجناكها.
فالذي يريد أن يمسك المسألة لا يمسكها على الرسول، لكن عليه أن يصعدها إلى ربنا، {زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرًا}. كأن العملية جاءت من أجل أن ما أبداه ربنا في زواج الرجل من مطلقة الولد المتبنى إذا قضى منها وطرا، هذا ما أبداه ربنا، إن الله حكم بأن الذي أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم سيبديه، إن الوحي هو الذي بيّن السبب الباعث على زواج الرسول بزينب إنه قوله تعالى: {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرًا}.
فالعلة في هذه العملية: يا ناس، يا محمد، يا زيد، يا زينب، أو يا من يحب أن يرجف، العلة في كل ذلك علة إلهية من كمال إلهي وعدل إلهي يتركز في قوله سبحانه: {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}، والأدعياء: هم الذين يتبنونهم من غير ولادة.
وما دام ربنا يريد أمرا فلابد أن يفعل، وأنتم آمنتم بأنه رسول، وإن لم تؤمنوا بأنه رسول يكون تكذيبكم برسالته أكبر من أنكم تنقدون تصرفه، فإن كنتم مكذبين أنه رسول، فما شأنكم إذن؟ إن تكذيبكم له كرسول هو أشد من أن تنقدوا تصرفا من تصرفاته بأنه تزوج ممن كانت امرأة ابنه المتبنى. وإن آمنتم بأنه رسول، فهذا الرسول مبلغ عن الله.
إذن ففعل الرسول المبلغ عن الله هو الميزان للأعمال لا ما تنصبونه أنتم من موازين. أتقولون للرسول الذي أرسله ربنا كي يبلغ منهجه ويطبق هذا المنهج ويكون هو ميزانًا للتصرفات، تقولون له: سنأخذ تصرفاتك ونعيدها على الميزان الذي نضعه؟ ما كان يصح أن يفعل أحد هذا، فإن قلت ذلك فقد عملت الميزان من عندك، ونقلت الأمر إلى غير الحق، وهذا أول خطأ؛ فالأصل في الرسول أن كل فعل له هو الكمال، ولا تأتي أنت بميزان الكمال وتأتي للرسول وتقول له: كيف فعلت هذه العملية؟ لأنك عندما تقول ذلك فقد نصبت ميزان كمال من عندك، وتأخذ تصرف الرسول لتزنه بميزان الكمال من عندك، وهذا مناقض للحق لأنك آمنت بأنه رسول.
وبعد ذلك يأتي بالقضية العامة ليقول سبحانه: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَاكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 40].
وكلمة {أبا أحد} أي لم يكن أبًا لأحد، ماذا تفهم منها؟ نفهم منها أنه أبوكم كلكم، {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ} لأنه أبو الجميع، بدليل أن أزواجه أمهاتكم، ومحرمات عليكم، فهو إذن والدكم كلكم؛ إذن فخذ بالك من دقة الأداء {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} وبمنطق الواقع هو أب لكم كلكم؛ لذلك هو لا يأخذ واحدًا فقط ويقول: هذا ابني، لا، هو أب لكم كلكم. وكل المؤمنين أولاده بدليل أن أزواجه أمهات لهم، قد يقول واحد: لقد كان عنده أبناء.
نقول له: إن أبناءه لم يبلغوا سن الرجولة، وهب أنهم بلغوا سن الرجولة حتى باعتبار ما سيكون فهؤلاء ليسوا رجالكم ولكنهم رجاله.
{وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} والرسالة وختم النبوة به فوق شرف الأبوة. وجاء الحق بذلك حتى لا يحزن زيد، فرسول الله قد شرفه، وإن شرفك يا زيد أنك كنت تدعى ابن محمد، فما يشرفك أكثر أنك مؤمن بمحمد كرسول، فالعظمة في محمد صلى الله عليه وسلم أنه جاء رسولًا.
ولذلك قلنا: إن هذه جعلت بنوة الدم بلا قيمة عند الأنبياء، ونجد أن النبي جاء بسلمان وهو من فارس وليس من قبيلته ولا هو بعربي وقال: سلمان منا آل البيت.